تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 25 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 25

25 : تفسير الصفحة رقم 25 من القرآن الكريم

** إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يقول تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ـ وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع, واختلاف الليل والنهار. هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الاَخر ويعقبه, لا يتأخر عنه لحظة, كما قال تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} وتارة يطول هذا ويقصر هذا, وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان, كما قال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا, {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الأقليم, ونقل هذا إلى هؤلاء {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موته} كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون ـ إلى قوله ـ ومما لا يعلمون} {وبث فيها من كل دابة} أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها, وهو يعلم ذلك كله ويرزقه, لا يخفى عليه شيء من ذلك, كما قال تعال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} {وتصريف الرياح} أي فتارة تأتي بالرحمة, وتارة تأتي بالعذاب, وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب, وتارة تسوقه, وتارة تجمعه, وتارة تفرقه, وتارة تصرفه, ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية, وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا, وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة, وتارة دبوراً وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتباً كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها, وبسط ذلك يطول ههنا, والله أعلم, {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} أي سائر بين السماء والأرض, مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن, كما يصرفه تعالى: {لاَيات لقوم يعقلون} أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى, كما قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض, ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا أبو سعيد الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه, عن أشعث بن إسحاق, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد, إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنشتري به الخيل والسلاح, فنؤمن بك ونقاتل معك, قال «أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهباً لتؤمنن بي» فأوثقوا له, فدعا ربه, فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهباً على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, قال محمد صلى الله عليه وسلم «رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوماً بيوم», فأنزل الله هذه الاَية: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الاَية, ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به, وزاد في آخره: وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الاَيات ما هو أعظم من الصفا ؟ وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحين} فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} إلى قوله: {لاَيات لقوم يعقلون} فبهذا يعلمون أنه إله واحد, وأنه إله كل شيء, وخالق كل شيء, وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه, عن أبي الضحى, قال: لما نزلت {وإلهكم إله واحد} إلى آخر الاَية, قال المشركون: إن كان هكذا, فليأتنا بآية, فأنزل الله عز وجل {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} إلى قوله: {يعقلون} رواه آدم ابن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي, عن سعيد بن مسروق والد سفيان, عن أبي الضحى به.

** وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنّ الْقُوّةَ للّهِ جَمِيعاً وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الّذِينَ اتّبَعُواْ لَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَتَبَرّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرّءُواْ مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومالهم في الدار الاَخرة حيث جعلوا له أنداداً أي أمثالاً ونظراء, يعبدونهم معه ويحبونم كحبه, وهو الله لا إله إلا هو, ولا ضد له, ولا ندّ له, ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود, قال: قلت: يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ قال «أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك» وقوله: {والذين آمنوا أشد حباً لله} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم, له, لا يشركون به شيئاً بل يعبدونه وحده, ويتوكلون عليه, ويلجأون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك, فقال {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميع} قال بعضهم: تقدير الكلام, لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً, أي أن الحكم له وحده لا شريك له, وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وأن الله شديد العذاب} كما قال {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبري المتبوعين من التابعين, فقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعو} تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا, فيقول الملائكة: {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} ويقولون: {سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}, والجن أيضاً تتبرأ منهم, ويتنصلون من عبادتهم لهم, كما قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقال تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضد} وقال الخليل لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} وقال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} وقوله: {ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً. قال عطاء عن ابن عباس {وتقطعت بهم الأسباب} قال المودة, وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح, وقوله: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا من} أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم, فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله تعالى عنهم بذلك, ولهذا قال: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور} وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} الاَية, وقال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء} الاَية, ولهذا قال تعالى: {وما هم بخارجين من النار}.

** يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه المستقل بالخلق, شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه, فذكر في مقام: الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً, أي مستطاباً في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول, ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ اتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها, مما كان زينه لهم في جاهليتهم, كما في حديث عياض بن حمَار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال ـ وفيه ـ وإن خلقت عبادي حنفاء, فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري , حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي, حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم, حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس, قال تليت هذه الاَية عند النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيب} فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله, ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة, فقال «يا سعد أطب مطعمك, تكن مستجاب الدعوة, والذي نفس محمد بيده, إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً, وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به».
وقوله: {إنه لكم عدو مبين} تنفير عنه وتحذير منه, كما قال: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونا من أصحاب السعير} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدل} وقال قتادة والسدي في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان, وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان, وقال مجاهد: خطاه أو قال خطاياه, وقال أبو مجلز: هي النذور في المعاصي, وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه, فأفتاه مسروق بذبح كبش, وقال: هذا من خطوات الشيطان, وقال أبو الضحىَ عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح, فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم, فقال: لا أريده, فقال: أصائم أنت قال: لا, قال: فما شأنك ؟ قال: حرمت أن آكل ضرعاً أبداً, فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان, فاطعم وكفّر عن يمينك, رواه ابن أبي حاتم, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي, عن أبي رافع, قال: غضبت يوماً على امرأتي, فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية, وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك, فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان, وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة, وهي يومئذ أفقه أمرأة في المدينة, وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك: وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم عن شريك, عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب, فهو من خطوات الشيطان, وكفارته كفارة يمين. وقوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة, وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه, وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم, فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً.